جورج بليك: العميل المزدوج

جورج بليك

صعق الشعب البريطاني في ايار 1961 عندما اعلن ان جاسوسا ايسمة جورج بليك حكم علية بالسجن 42 عاما فقد كانت مدة الحكم طويلة جدا بالمقارنة مع الاحكام علي نون ماي وفوشنر وجواسيس حلقة بورتلاند

فما الذي فعلة بليك ؟ وقد كانت محاكمتة سرية ( لاسباب تتعلق بالامن القومي ) وقد رفض رئيس الوزراء هارولد ماكميلان باصرار ان يوضح حقائق القضية برغم المحاولات المتكررة من المعارضة العمالية لاثارة الموضوع في البرلمان , واخيرا وافق علي شرح الموضوع لثلاثة من مستشاري حزب العمال في اجتماع سري كمعادلة لتهدئة الخواطر ولكن ما قالة لهم ادي الي نتيجة معاكسة

ولد بليك في روتردام عام 1922 ووالدة البيرت وليم بيهار يهودي مصري يحمل جواز سفر بريطاني اما والدتة فهولندية , وقد انضم المراهق جورج بيهار الي المقاومة الهولندية ضد النازيين عندما احتلوا البلاد ولكنة اضطر للهرب الي بريطانيا حيث انضم لمنظمات سرية تتابع العمل ضد المانيا وغير اسمة الي جورج بليك وعمل اخيرا كضابط مخابرات في الاحتياط الطوعي للبحرية الملكية

ونقل بعد الحرب الي وزارة الخارجية بسبب اجادتة لعدة لغات , وعندما صدرت الاوامر بسبب قضية فوشنر ان كل موظفي المخابرات يجب ان يكونوا من مواليد بريطانيا مان بليك في خضم عملة كنائب للقنصل وعميل للاستخبارات الهجومية البريطانية MI6 في كوريا , وقد اعتقلة الشيوعيون ووضع في معسكر استجواب بكوريا الشمالية لعدة اشهر , وقد تم نفي الاقتراحات بأنة تعرض لعملية غسيل دماغ في هذة الفترة بشهادة رفاقة في السجن , فقد قالوا انة كان يقاوم سجانية بشجاعة شديدة

في عام 1953 كان يعمل في برلين لصالح الاستخبارات الهجومية البريطانية , وكانت تعليماتة تقضي بالتسلل الي شبكة التجسس السوفييتية في المدينة والتي كانت خلال الخمسينات منطقة المجابهه في الحرب الباردة بين الشرق والغرب

وكانت لندن ولمدة اربعة سنوات راضية عن عملة المعقد في هذا المستنقع من الجاسوسية والعمالة المزدوجة , ولكي يثبت حسن نيتة للسوفييت فقد كان يزودهم ببعض المعلومات السرية بعلم لندن , وكانت ادارة الجاسوسية الهجومية مقتنعة انها تحصل علي اكثر مما تعطي وفي الحقيقة فقد طانوا مضللين

وظهرت حقائق جديدة عام 1961 عندما اعتقل جاسوس الماني للروس , التجأ للغرب جاسوس بولوني و تبين بعد فوات الاوان ان العميل المزدوج بليك عميل ثلاثي , وكان يعمل عندئذ في بيروت كما كان اعتراض رسالتة لتحذير موسكو من ان غوردون لوندال سيعتقل هو اخر دليل تحتاجة ادارة الجاسوسية الهجومية علي خيانتة , وأرسل عميل الي لبنان ليناقشة في منصب جديد عرض علية بلندن وهي نفس الطريقة التي استخدمت لمحاولة اعادة فيلبي الي لندن بعد سنتين , وفي حين ان فيلبي هرب الي روسيا فان بليك الذي لم يعتقد انة قد كشف عاد الي لندن حيث اعتقل

وحاولت حكومة ماكميلان ان تسوغ المحاكمة السرية علي اساس ان العملاء الغربيين الذين افشي بليك سرهم لا زالوا يهربون من خلف الستار الحديدي وفي الحقيقة انة في ذلك الوقت تم اعتقالهم جميعا واعدموا رميا بالرصاص او سجنوا , وافتضح امر اكثر من 40 عميلا معاديا للشيوعية في كل انحاء العالم , وكانت هناك اسرار مزعجة اخري اطلع عليها مستشاروا حزب العمال : الزعيم هوغ غيتسكل ونائبة جورج براون والوزير السابق ايمانويل شانيول في اجتماعهم مع رئيس الوزراء ماكميلان ووزير الخارجية نورمان بدووك

قام بليك في برلين بتصوير كل وثيقة سرية عبرت مكتبة وسلمها للمخابرات الروسية , وقد كان يختبيء في المكتب عندما كان رجل الامن يغلقة في وقت الغذاء وبعمل بدون ان يزعجة احد وقد اخبر الروس عن مكان وجود بعض الالمان الشرقيين الهامين الذين التجأوا الي الغرب وتمكنت المخابرات الروسية من اختطافهم واعادتهم الي الستار الحديدي , كذلك افشي سر اهم المشاريع الطموحة للغرب وأكثرها كلفة وهو ما سمي بالعملية الذهبية

والعملية الذهبية مشروع مشترك بين وكالة المخابرات المركزية الامريكية وبين المخابرات الهجومية البريطانية ويقوم علي بناء نفق باتجاة برلين الشرقية لوضع اجهزة تعترض الرسائل بين الروس والالمان الشرقيين وقد نضجت الفكرة في كانون الثاني 1953 واستمر الحفر ثلاثة اشهر وكان النفق يبدأ في محطة الرادار الجديدة قرب مقبرة رودوف في برلين الغربية ويمتد حوالي نصف ميل تحت الاسلاك الشائكة للحدود بين برلين الشرقية والغربية ب 3و7 متر

ووضعت في النفق انابيب حديدية ضخمة ( قطر 1و2 متر ) تصل بين حجرات كبيرة تحتوي اجهزة مراقبة ولوحة مقسم هاتف , واجهزة تكييف الهواء , كذلك ركبت فيها ميكروفونات مقصرة جدا واجهزة تكبير الصوت واجهزة لتسجيل المكالمات والات طابعة واصبح بامكان المتسللين من امريكيين وبريطانيين والمان غربيين ان يستمعوا الي 400 محادثة هاتفية في وقت واحد , وقد اعترضت مكالمات خطوط الحكومة الالمانية الشرقية , وقيادة المخابرات الروسية في شارع كارلشورست ومركز قيادة الجيش الروسي واتصالات مع موسكو ودول اخري في حلف الاطلنطي

وخلال الشتاء الاول ادت الحرارة المتصاعدة من النفق لاذابة الثلج علي الارض فوقة وبسرعة تم تركيب شبكة تبريد في سقف النفق وتتابع العمل بنشاط داخل الانبوب المغلقة بنظام كهربائي في هذا النفق السري

وفي 22 نيسان عام 1956 بدأ حرسي الحدود الالمانيين الشرقيين والمخابرات الروسية بالحفر فوق النهاية الشرقية للنفق , وصدرت الاوامر لطاقم النفق بالتراجع الي النهاية الغربية ووقفت اجهزة المخابرات الغربية تراقب بعجز الروس وهم يستغلون الموضوع اعلاميا افضل استغلال حتي انهم نظموا رحلات للتفرج علي اكتشافهم لاكثر من 40000 شخص

وفي الحقيقة فان وكالة المخابرات المركزية الامريكية كانت تشك منذ اشهر بأن النفق قد اكتشف , لان الاتصالات الهاتفية بين المكاتب المراقبة قد هبطت فجأة للحد الادني , وقد امكن التأكد من هذة الشكوك بعد اعتقال بليك الذي ادعي انة اخبر السوفييت عن النفق منذ ان تمت الموافقة علي بدء العمل فية تري هل كان الغرب مضللا في السنوات الثلاث الماضية

وقد تابع بليك عمالتة في الشرق الاوسط ففي عام 1958 كشف المصريون شيكة التجسس البريطانية كلها في المنطقة , وتم ايقاف بعض العملاء وسحب اخرون بسرعة تحت التغطية الدبلوماسية وقد هدد الرئيس جمال عبد الناصر بكشف اسماء الجواسيس علنا في اذاعة القاهرة ولكنة لم يفعل ذلك , وقد لزمت سنوات لاعادة بناء شبكة التجسس في المنطقة

ولم يكن ناصر محبا للبريطانيين فقبل سنتين ارسل رئيس وزرائهم انتوني ايدن قواتة لتهاجم مدينة السويس , كما يعتقد ان ادارة المخابرات الهجومية كانت متورطة في المؤامرة التي حاول فيها ارهابيين مصريين اغتيال ناصر وهي مؤامرة لم يقدر لها ان تنفذ , ولكن كشف شبكة التجسس عام 1958 لم يكن الهدف منة الانتقام من البريطانيين فقط اذ ان الروس كانوا يعدون ناصر بالاسلحة ولم يرغبوا بوجود الجواسيس الغربيين لمراقبة العملية فعلا لم يكونوا موجودين والفضل لجورج بليك ‍‍‍

تري هل كان رؤساء بليك مخطئين عندما سمحوا لة ان يعرف اكثر مما ينبغي ؟ وقد قال منتقدي ادارة الجاسوسية الهجومية انة علي الرغم من ان العميل المزدوج يجب ان يضحي ببعض الاسرار ليكسب ثقة العدو فان معرفتة بأسرار حيوية جدا يجعلة عرضة للابتزاز او التعذيب اذا كشف امره وأن رؤسائة يجب ان يلاموا اذا انحرف للخيانة

وقد انتحر الكولونيل تشارلز جيلسون وهو رئيس قسم روسيا في ادارة المخابرات الهجومية في اوروبا حتي عام 1958 , بأن اطلق علي نفسة النار في روما بعد التقاعد ومان التفسير الرسمي لذلك مشاكل مادية ؟

بليك الجاسوس الذي سبب اضرارا لادارة المخابرات الهجومية تأتي في أهميتها مباشرة بعد الاضرار التي سببها كيم فيلبي لم يقضي في السجن الا جزءا بسيطا من ال42 سنة التي حكم علية بها ففي تشرين اول 1967 خلع القضبان التي لم تثبت جيدا بالاسمنت في احدي نوافذ سجن وورم وود في لندن واختفي ليظهر بعد فترة قصيرة في موسكو , ومرة اخري تمكن الروس من العناية بأحد رجالهم , وكان عمل بليك في السجن الاشراف الاداري علي المطعم وفي يوم هربة ادخل في السجلات الوارد والصادر وكتب ملاحظة ساخرة يعتذر فيها عن اتمام الحساب بسبب ضيق الوقت

وأنا أقول كلما كان الألم أصعب أصبح الوصول إلى الحقيقة أفضل الطريق طويل لكن مع الإرادة لا شيء مستحيل أعرف نفسك تنل أملك .